التضامن العالمي- غزة بوصلة للعدالة، التقنية، والضمير الإنساني.

المؤلف: هدى نعيم08.27.2025
التضامن العالمي- غزة بوصلة للعدالة، التقنية، والضمير الإنساني.

في هذا الزمن الذي تهيمن عليه التطورات التقنية المتسارعة وانحدار القيم الإنسانية، وفي ظل العجز المُطبق عن إيقاف الإبادة والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في غزة، حيث بات الصمت تواطؤًا ضمنيًا في الجريمة، يبرز دور النشطاء الدوليين.

في مواجهة هذا الخواء الأخلاقي، أطلق آلاف الناشطين حول العالم مبادرة جريئة لإعادة صياغة مفهوم التضامن، ليتحول من مجرد تعبير رمزي عن الدعم إلى ممارسة عملية جريئة، تتخطى حدود الدول وتجاوز المشهد الإعلامي السطحي. مستلهمين من التجارب التاريخية التي أكدت أن الضغط المتواصل قادر على زلزلة أعتى الأنظمة.

من تونس الخضراء إلى مدريد الصاخبة، ومن ستوكهولم الهادئة إلى جوهانسبرغ النابضة بالحياة، مرورًا بشواطئ صقلية الساحرة وصحراء العريش الشاسعة، تجسدت تحركات الناشطين كخطوط مواجهة أخلاقية مع النظام الدولي القائم، متجاوزين الشعارات الرنانة العابرة على وسائل التواصل الاجتماعي.

لكنهم يستفيدون من وسائل التواصل في سبيل الدعم، الحشد والتنظير لأفكارهم، ساعين لإنشاء حركة مقاومة مدنية عالمية عابرة للقارات، إذ يدركون جيدًا أن استمرار الاحتلال والحصار لا يعتمد فقط على القوة العسكرية الغاشمة، بل أيضًا على تواطؤ المؤسسات الاقتصادية والتقنية العملاقة، وأن التاريخ لن يرحم المتواطئين والصامتين عن الظلم.

في خضم هذا المشهد المُلهم، تظهر قصة أسماء، الشابة ذات الجذور المغربية والتونسية، والحاصلة على الجنسية الألمانية، والتي تنقلت بين أروقة كبرى المؤسسات العالمية، من "دويتشه بنك" مرورًا بـ "سيمنز" و"ديلويت"، وصولًا إلى منصب مديرة مشاركة في "أمازون ويب سيرفيسز"، الذراع التكنولوجية الأكثر تأثيرًا في العالم.

لكن الأهم من مسيرتها المهنية الزاهرة هو قرارها الأخلاقي الشجاع بتقديم استقالتها من منصبها المرموق. لم يكن صوت الطائرات الحربية فوق سماء غزة هو ما أيقظ ضميرها، بل لحظة الصمت المطبق في مكتبها الزجاجي الفاخر في "أمازون"، عندما أدركت أن كل ما تبنيه هناك، من استراتيجيات وأرقام وتحولات رقمية، لا قيمة له إذا كان سيُستخدم ضد حياة إنسان، ولو كان طفلًا بريئًا في غزة.

شعرت أسماء أن مساهمتها التقنية تُستخدم كجزء من البنية القمعية التي تستهدف الفلسطينيين، في إطار مشروع "نيمبوس" المشترك بين "أمازون" و"غوغل"، والذي يهدف إلى تزويد الاحتلال الإسرائيلي بأنظمة ذكاء اصطناعي متطورة تُستخدم في الأغراض العسكرية.

غادرت أسماء الشركة وهي تدرك أن مجرد الرحيل من "أمازون" ليس كافيًا، فالقمع لا يقتصر على غرف الاجتماعات المغلقة، بل يتجسد أيضًا في آليات الذكاء الاصطناعي، والخوارزميات المعقدة، والصمت المتواطئ.

لم تكتفِ أسماء بالانسحاب، بل أسست تحالفًا أخلاقيًا للذكاء الاصطناعي في إسبانيا، داعية إلى إعادة القيم الإنسانية إلى صميم تصميم الخوارزميات. وأكدت قائلة: "لا جدوى من أي حديث عن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي لا يولي اهتمامًا لما يحدث في غزة. هناك يُختبر ضميرنا الجمعي، وهناك يتحدد موقفنا الحقيقي من الكرامة الإنسانية".

وأضافت: "يجب أن نذكّر الجميع بأن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة محايدة، بل أصبح يُستخدم اليوم كأداة قمع واحتلال. ومن الضروري إعادة تقييمه من جذوره".

سرعان ما تحول هذا الموقف النظري إلى عمل نضالي مباشر، عندما انضمت أسماء إلى "المسيرة العالمية نحو غزة"، التي أُطلقت تحت شعار "قافلة الصمود" في التاسع من يونيو/ حزيران 2025، في محاولة لكسر الحصار الإسرائيلي الجائر. شارك في هذه المبادرة، التي نظمتها "تنسيقية العمل المشترك لأجل فلسطين"، أكثر من 1500 ناشط من دول المغرب العربي، بينهم نقابيون وأطباء ومحامون، وتجمعوا في قوافل ضمت عشرات الحافلات والسيارات، حاملين رسائل واضحة: كسر الحصار، وإدخال المساعدات الإنسانية، وتحويل قضية غزة إلى قضية رأي عام وضغط أخلاقي.

آمنت أسماء بأن واجبها لا يكتمل إلا بالمشاركة الميدانية الفعالة. فاستبدلت هاتفها المحمول، وأعدت مواد توعوية حول الاستخدامات العسكرية للتكنولوجيا، وانطلقت نحو مصر، مدركةً أنها قد تُمنع من الدخول أو تُعتقل. وبالفعل، تم احتجازها في المطار، وتفتيشها، واستجوابها، ثم أُفرج عنها بشرط المراقبة.

في البداية، سارت القافلة بشكل منظم يعكس أصالة الشعوب العربية وكرمها. وعندما تجاوزت الحدود التونسية الليبية نحو معبر رأس جدير الحدودي، استقبلها حشود من المواطنين بحفاوة بالغة في مدن قابس ومدنين وصفاقس، حيث استضاف الأهالي المتضامنين وأقاموا لهم مآدب تكريم، في مشهد تجسد فيه وحدة الشعوب العربية في دعم القضية الفلسطينية العادلة. ثم عبرت القافلة إلى الأراضي الليبية في العاشر من يونيو/ حزيران، لتبدأ المرحلة الثانية نحو مصر.

هنا بدأت مشاركة أسماء، التي وصلت جوًا إلى مصر، نقطة التجمع للانطلاق نحو الحدود المصرية الفلسطينية. تقول أسماء: "منذ لحظة وصولي إلى مطار القاهرة، لم تجرِ الأمور كما توقعت. فبعد ختم جواز سفري، طُلب مني الانتظار جانبًا، ثم نُقلت مع مجموعة من الأشخاص إلى غرفة مغلقة، حيث فُتشت هواتفنا. وعندما سألني الضابط عن سبب الزيارة، كنت مصممة على الادعاء بأني هنا للاحتفال بعيد ميلادي. ولأنني استبدلت هاتفي المحمول مسبقًا، لم يكن فيه أي شيء يدينني. لقد أعددت كل شيء لضمان عدم ترحيلي قبل أن أؤدي الرسالة التي جئت من أجلها".

تتابع أسماء: "في اليوم التالي، توجهت إلى الإسماعيلية عبر طريق صحراوي طويل لتجنب نقاط التفتيش. وبعد أن وصلنا إلى نقطة التجمع الأولى وكدنا نتنفس الصعداء، اعترضت طريق الحافلة قوات أمنية بلباس مدني، وأمرت السائق بالعودة إلى القاهرة".

كانت هذه اللحظة بمثابة صدمة قوية، لكن أسماء قررت القفز من السيارة والانضمام إلى المسيرة. وسط الحشود، كانت تردد الهتافات وتوثق اللحظات الثمينة بكاميرا هاتفها. هناك التقت بحفيد نيلسون مانديلا، الذي هتف قائلًا: "حرية فلسطين هي امتداد لحرية أفريقيا". لكن قوات الأمن فرقت التجمع بالقوة والتهديد.

تقول أسماء: "عدت إلى القاهرة والدموع تنهمر من عيني، شعرت بخيبة أمل مريرة، وحزن عميق لا يمكن وصفه".

قصة أسماء ليست مجرد حالة فردية، بل هي جزء من حركة عالمية متنامية يقودها نشطاء من مختلف أنحاء العالم.

في قافلة "صمود"، اعتُقل بعض المتضامنين، ومُنع آخرون من الدخول. لكنهم أصروا على مواصلة الرحلة، وأعادوا تنظيم صفوفهم في تونس من جديد، في مشهد يذكر بتجارب التضامن الأممي مع جنوب أفريقيا خلال فترة الفصل العنصري.

بدأت حركة المقاطعة الدولية ضد نظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا في أواخر الخمسينيات، مدفوعة بالوعي السياسي المتزايد لدى الشعوب، وتصاعد السياسات العنصرية التي فرضها النظام على الأغلبية السوداء.

كانت إحدى أولى الحملات الرمزية هي حملة مقاطعة البطاطا عام 1959، والتي سلطت الضوء على الظروف القاسية للعمل القسري في مزارع النظام، مما أثار سلسلة من ردود الفعل الغاضبة على المستويين الداخلي والخارجي.

في العقود اللاحقة، تحول التضامن من مجرد فعل احتجاجي إلى منظومة ضغط متكاملة. فقادت اتحادات العمال والنقابات والطلاب في بريطانيا وكندا والسويد والولايات المتحدة، حراكًا شعبيًا واسع النطاق.

رُفض تفريغ البضائع الجنوب أفريقية في ميناء ليفربول، وسُحبت صناديق التقاعد والاستثمارات من الشركات الداعمة للنظام العنصري. وامتدت هذه الممارسات لتشمل قطاع الرياضة والفنون، حيث مُنعت جنوب أفريقيا من المشاركة في الأولمبياد والفعاليات الثقافية الكبرى.

أثمر هذا الزخم الشعبي عن ضغوط مؤسسية، دفعت الأمم المتحدة إلى إصدار قرارات بفرض عقوبات اقتصادية على بريتوريا بدءًا من عام 1962. ورغم مقاومة بعض الحكومات الغربية لهذه الضغوط، فإن التراكم الكمي والنوعي للحراك الشعبي أدى إلى حصار سياسي واقتصادي خانق، بلغ ذروته في أواخر الثمانينيات. ومع بداية التسعينيات، انهار النظام العنصري، وأُجريت أول انتخابات ديمقراطية في جنوب أفريقيا عام 1994.

بهذا المعنى، قدمت تجربة جنوب أفريقيا نموذجًا بالغ الأهمية لحركات التضامن الحديثة، لا سيما في القضية الفلسطينية. فاليوم، تتحرك قوى مدنية عالمية ضد الاحتلال الإسرائيلي بنفس الأدوات تقريبًا: المقاطعة الأكاديمية والاقتصادية، سحب الاستثمارات، والتحرك الشعبي في الشارع، وعلى مستوى المؤسسات.

تشير التحولات الأخيرة إلى لحظة حاسمة: فلسطين لم تعد قضية هامشية في الضمير العالمي، بل أصبحت بمثابة اختبار أخلاقي للحداثة ذاتها. ولم يعد التضامن مجرد فعل إنساني نبيل، بل هو موقف سياسي حاسم ضد بنية الظلم العالمية.

فالذين تركوا وظائفهم المرموقة، أو سافروا إلى الحدود، أو تظاهروا في شوارع مدن العالم، لم يكونوا يمارسون التعاطف فحسب، بل كانوا يشاركون في إعادة تعريف السياسة كأداة للتحرر لا للاستعمار والاستيطان.

وعلى غرار تجربة جنوب أفريقيا، التي بدأت من هوامش النضال وتحولت إلى تيار عابر للحدود، تعيد غزة اليوم تفعيل البوصلة الأخلاقية. والفرق يكمن في أن أدوات القمع اليوم أصبحت أكثر تعقيدًا، مدعومة بالذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة.

ولكن في المقابل، تطورت أدوات المقاومة لهذه الأدوات أيضًا، إذ أصبح التضامن الرقمي، والمقاطعة التقنية، والتحشيد الحقوقي أمام المحاكم الدولية، أدوات أساسية في معركة نزع الشرعية عن الاحتلال.

من هنا، لا تُقاس حركة التضامن الدولي بعدد الذين وصلوا إلى غزة فعليًا، بل بمدى نجاحها في اختراق المفاهيم التقليدية للالتزام الأخلاقي، وتشكيل تضامن يتجاوز الحدود العاطفية والشعارات الرنانة، وصولًا إلى محاسبة المنظومات الداعمة لسياسة الاحتلال الإسرائيلي والمساهمة بشكل فعال في الإبادة الجماعية التي تُرتكب في قطاع غزة. فكل خطوة نحو غزة، وإن أُحبطت، تُحدث شرخًا جديدًا في جدار التواطؤ.

وكما لخصت أسماء الأمر: "لسنا مجرد متضامنين، نحن نعيد تعريف هويتنا في هذا العالم. وغزة ليست بعيدة، بل هي في صميم كل الأسئلة الكبرى حول العدالة والتكنولوجيا والضمير الإنساني". وأضافت: "أريد أن أقول لأهل غزة: نحن هنا، ننظم صفوفنا، نتحرك بكل قوانا.. ولن نتخلى عنكم حتى تنعموا بالحرية مثل كل الشعوب".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة